عاهدتُ نفسي ألّا أخفي عنكم حادثة زواجي ليلة أمس، و ترددتُ لحظات قبل الآن هل أسرد لكم عمّا جرى أم أكتفي باحتساء قهوتي في سواد الصمت الذي يلبس جدران حانتنا ساعات الزوال.


 ما إن تستسلم الشمس للمغيب حتى يغزو السكارى
هذا المحل و يمضي البار ملجأ لكلّ نديم قد يشرب حتّى ينسى ما الذي شرِب من أجله. و لكنّي سأستغلّ ساعة استراحتي هذه في سرد ما جرى ليلة أمس. نعم فها قد ارتخَت اصابع يدي اليُسرى مُعانقة الفنجان، و بدأَتْ أصابعي يدي الأُخرى تنقر على الهاتفة مُسرعة تكتب ما حدث و أنا غارق في الكرسي أتفرّج على يداي تعملان في سرعتان متناقضتان و كأنّني أرى أطراف جسد آخر غير جسدي.
عُدت يا زُملائي البارحة من العمل ماشياً مُتعبا على رصيف شارع " كوين'ز واي " العريض، كل شيئ في هذا الشارع عريض ما عدا أكتافي التي تحمل بينها أفكارا أوسع من الشارع و خيال أكثر عرضا من المدينة.
بدأتُ التفكير ببساطة في بيتي و وسادتي المفروشة بشعر حبيبتي، لابدّ أنها الآن ككلّ مساء مستلقية تقرأ أحد الكتب التي أهديتها.
 تنتظرني في جوّ بوهيمي هادئ و ضوء خافت إلّا من إنارة مصباح كهربائي خفيف.
إنّ الشارع الصاخب بأهازيج المغنيّين و أضواء السيارات و ضجيج الميترو، له أجواء مُغايرة لأجواء حبيبتي. زمان واحد و حقيقتين مُختلفتين، كيدي اليُمنى و اليُسرى الآن.
هرعتُ ماشياً نحو محطّة الميترو مبتلّا  بزخّات مطر الصيف، دخلتُ المحطّة أحمل حقيبتي و
أخدتُ الأدراج اللولبية أدور فيها نازلا، أمشي بسُرعة مستقرّة أدور ماشيا نحو الأسفل و أدور محافظا على نفس السرعة كي ألحق بالقطار، و هذا ما أفعله كلّ يوم بعد العمل، نفس الطريق نفس الحركة نفس التوقيت.
" لقد حولّتني هذه المدينة من إنسان إلى ماكينة "
قُلت في نفسي و أنا أقترب من الدُرج الأخير أسمع هدير القطار و لا أراه، القطار يدّك الأرض من داخل النفق و تضرب عجلاته أطراف السكّة بانتظام كأنّ قلبه ينبض شوقا لرُؤيتي.
ها هو قادم يمّر أمامي و سُرعته تتباطئ و كذلك هديره.
 اقترَبتُ من الرصيف و فُتِحت الأبواب أمامي و رَميتُ عيني على الكراسي قبل أن أصعد فكانَت على كرسّيي المفضّل فتاة جالسة تتصفّح مجلّة من مجلّات الموضة، عيناها تلمعان ببريق يتلألأ من بين شعرها الأسود و رائحة عِطرها قد اكتسحت المقصورة و سرَحَت في أرجاء المحطّة. اختلطَت في داخلي الحواس و كأن الرائحة العِطر تلك و جمال عينيها صارتا أصواتا تُناديني.
اقترَبتُ نحوها و جلَستُ بجوارها فشعرتُ لكأنني دخَلتُ محّل الورود و ليس القطار.
استوَيْتُ في مجلسي قُربها ثمّ فتَحتُ رواية " موسم الهِجرة إلى الشمال " اقرأ أو أتظاهر أنني أفعل، ثم أُحاول استراق النظر إلى صدرها كما يفعل المُراهقون، فَوجدتُها تنظُر نحوي و هذه سابِقة و حالة غَيَّرت روتين أيّامي.
ابتسَمتُ لها و أجابَتني بابتسامة أعرَض ثم سألَتني: هل أنْت عربي ؟
- مغربي
- و لكن لغة كتابك عربية ؟
- أكيد، قد تكون فارسية أيظا و أحيانا أوردية و لكنّ الكتاب هذا عربي و في طيّات صفحاته احداث تتنّقل بالقارئ بين صحاري السودان و  حدائق لندن، قد انصحكِ بقرائتها.
- حسنا ولكن حدّثني عن بلدك، أريد زيارة المغرب.
- لا تذهبي حيث يذهب السوّاح، سأذهبُ قريبا و أتمنّى أن نلتقي في قريتي. أنا من قرية عجيبة حذى مرّاكش، فيها حيوانات و مراعي فريدة
- هل عِندكم جِمال؟  و أفاعي ترقص ؟
- و حمير تستحّم و زرافات تمشي على قدمين و أفاعي بسبع رؤوس كلّ رأس يرقص على إيقاع مُختلف، و هناك في قريتنا طيور تتكلّم و واحات تُنبت السلاحف و السلاحف تكبر و تُصبح حياوانات أخرى عجيبة. و أنتِ من أيّ بلد ؟
- أنا مغربية، الله يمسخك أ الكذّاب،  قالَت و هي تضحك بأعلى صوتها.
ضحِكنا معا و القطار يحمل مُزاحنا مُسرعا يدّك الأرض قبل أن يتوقّف و يُنزل قِصص و يحمل قصص أخرى، و بقيتُ أنا و الفتاة نتحدّث و ناقَشنا رواية الطيب صالح، و كُتب دوستويفسكي و خليل جبران و المتنبّي و أغاثا كريستي و محمود درويش و نسيتُ معها أين أنا و اعترَفتْ لي بإعجابها بي و تطوّر الإعجاب إلى حماقة و جنون متبادلَين و قالت إذا كُنت لا أكترث بأيّ شيئ كما أدّعي و لستُ معنيّ بالحياة كاملة سواء وُجِدت أم لا، فهل أُبرهنُ لها هذا العبث بأن أتزوّجها صباح الغد و لو أنّنا تعارفنا منذ خمس دقائق، و أجعل من عقد القِران ورقة من دون أيّة قيمة؟
قُلت لها أنني قبِلتُ التحدي.
شخصيات و أحداث و أزمان مرّتْ يا سادتي كوميض البرق و أنا واقف أمام القطار أنتظر أن يتوقّف، فُتِحت أبوابه و في غضون ثانية، تهبّ قدمي بالصعود، و عيني تلمح فتاة جميلة تتصفّح مجلّة موضة، و عقلي قد وصل معها إلى حدّ الزواج ؟
هل الأزمان نسبية إلى حدّ النسج لقصةّ غريبة كاملة في ثانية، بينما تستغرق كتابتها ساعة استراحتي بالكامل و برود قهوتي؟
Eddie pacer 20 nov 2014

Comments

  1. انت اعمق من العمق نفسه. تحياتي

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog