عُدت للمنزل بعد يوم شاق و فتحتُ الباب فوجدتني أقف على برقية غريبة بلون زهري من دون خاتم و لا عنوان و لا إسم.
 ترددت بُرهة في فتحها، و لم أجد داعي للتّخوف وانحنيت لأعرف فحواها ولكنّي تركتها على حالها و استقمتُ من جديد. فقد تذكّرتُ حادثا من الذّكرى بشأن برقية أخرى كُنت قد توّصلت بها من الأكاديمية العسكرية بمكناس سنة 2008 تقول أنّي قُبلت لإجراء مباراة ولوج صفوفهم برتبة ملازم.
  احتفلتُ بهذا الخبر على طريقت مع الأصدقاء بالسباحة في " السّاكية " أو الساقية، وهي ليست أكثر من مجرى مياه آتية من السدّ تسقي الحقول.
 كُنت في الماء البارد أغطس و افتح عيني فأرى الضفادع و أسماك الواد تكاد تقضم أطراف يدي فأجدف بدراعي و ارتفع إلى السطح من جديد فأصرخ و تنفجر رشّات الماء من بين شفتاي قائلا لرفاقي: " مِن مياه السّاكية هذه سأملأ المسبح في ڤيلّتي ".
 كان الجميع من أهل المدينة و الدوّاوير يسبح، حتى الكلاب تسبح و الحمير تستحّم و النساء تغسل زرابيهنّ و مجرى الماء غير آبه بنا يستمّر في السيّل صوب الغرب، إذا وقفتَ على الماء أكمل المجرى طريقه من بين قدميك، و إذا صادفه حائط يرتطم به فيَعوجُّ إلى اليمين أو الشمال و لكنّه دائماً يكمل مجراه غير مكترث ولا معني كالزمّن.
لم أرجع إلى المنزل ذلك اليوم إلّا بعد ما شعرتُ بتعب غريب، و أخدَتْ أمعائي تتقلّص و تُشعرني بالألم و أحسستُ في الطريق على درّاجة صديقي الهوائية فجأة كأنّ أحشائي قد أنبتَتْ شوكا، لا أنحني و لا أتحرّك حتى أصرخ من الألم، وحملني صديقي أسامة على درّاجته الهوائية و أخد يهرع على الطريق  مقاوما الريح المعاكس و شمس المغيب استقرّت كنصف قرص مشتعل في آخر السّماء، فبدا و كأننا مسرعين نحو باب الجحيم.
لقد مرّ على ذلك اليوم سنين، و حتّى الآن و أنا واقف أتردد هل أفتح هذه البرقية أمامي، مازلتُ أذكر ارتياب أبي و نحن في سيّارته مسرعين نقصد المستعجلات، كان يدوس على المكابح في خلط، يلتفت نحوي غاضبا يريد معاتبتي و يريد معرفة ما حصل و لا أنجح في الإجابة بصوت ما عدا الأنين.
تسمُّم على مستوى الأمعاء من ماء الساكية يا أعزائي القرّاء كاد يودي بحياتي و أنا مقبل عليها باجتياز مباراة العسكر كي أضمن مستقبلي كما كان يقول أبي.
لم اجتز المبارة في اليوم الموالي و أنا طريح الفراش، و لكنّي اجتزت محنة الألم بعد أيام قليلة.
لم تصِر الحادثة تلك بعد أسابيع أكثر من ذِكرى و درس سرعان ما تناسيتهما.
ولَجتُ الجامعة في الموسم الموالي و انشغلتُ بالامتحانات و لولا انشغالي ذلك لعُدت أسبح في مياه السّاكية مجدّدا.
و أنا بطبعي عنيد و لا أتعّض و أعرف مصلحتي، أم هكذا أضنّ، كم نهاني من الزملاء ألّا ألوج أقسام الكلّية و فعلت، و نجحت ثم أكملت دراستي في الخارج حيث استنشقَتْ رئتي هواء جديد و رأَتْ عيني سلوكات مجتمع آخر و أنماط عيش تختلف عن تِلك التي عهدتُها في بلادي.
القطار ينزل الناس منه و يصعد آخرون فيعود أدراجه بلا فوضى و تغدو المحطّة هادئة كأنّ شيئا لم يحدث.
و مرّت السنين فوجدت نفسي أشتغل في مطبخ كما يفعل معضم أبناء جاليتانا المغاربية في أوروبا. و لست أدري كيف أنّ المطابخ تعجّ بأبناء وطني و كأنّ هذا العمل مُخصص بنا فقط، حتى أنّ صديق جزائري قال لي " إنّ الناس في المطارات يُختم على جوازاتهم الدخول، و نحن المغاربة يطبعون على جوازاتنا الإذن بالدخول و على جبهتنا الكوزينة ".
و الحياة رُغم قساوتها فهي جميلة. عِشتُ و بقيت في لندن سنوات رغم بردها. الكلّ يعمل و لا يشعر المهاجر فيها بالغربة من المجتمع ولكن الجميع بالنسبّة لي هنا غريب. ألا يباغت الإنسان مِثلي ذلك الشعور بالاغتراب عن العالَم؟ أن يتجرّد كلّ شيئ أمامك من أيّ معنى، و تصير غير مُدرك لمعنى سلوكك، أن تستيقظ في الصباح في وقت محدد، تجبر نفسك على الأكل، تذهب للعمل في وقت محدد، تشتغل طوال اليوم و تعود للمنزل نفس الوقت الذي عُدت فيه الأمس، و تتكرر الأيام بأحداثها الروتينية في الحكبة نفسها. هل الحياة خطأ في العدم؟ هل هناك معنى لوجودي؟ أم أننّي لم أتقبّل بعد أنني لا أختلف عن القطط و الأشجار و الكراسي في الوجود سوى بالإدراك؟
هكذا يا سادتي تتفرقع الأسئلة و تتلألأ الأفكار في دواخل عقلي كأنها الألعاب النارية. هكذا يا سادتي تجعل أفكاري شفتاي تبتسم لما يدور في ذهني من تساؤلات عن حالي اليوم إذا ما كُنت جندي، أعطي الأوامر لمن هم أقل منّي رُتبة و أمتثل لأصحاب رُتَب أعلى، ألبس مثل الجميع و أمشي مثل الجميع و أفكّر مثل الجميع..
ربمّا أشهد أنّ كلّ لحظة عِشتها في سلام، فهي بفضل الجنود اليقضين حرّاس الوطن من كلّ شر، و لكنّني لم أوجد من أجل العسكرة و الانضباط.
أحلامي يوتوبية تسرح في عوالِم بلا جنود و لا حدود و لا أوطان و لا أُمم، فقط بشر و حياة و خُضرة و سعادة..
هكذا يا سادتي يسرح بالي كلّ ليلة أتسلّى في طريقي عائد إلى المنزل بعد يوم عمل شاق، و كذلك كنت أفكّر هذه الليلة حين اقتربتُ من عتبة المنزل و فتحت الباب ثمّ وجدتُ برقية غريبة وردية اللون بلا عنوان و لا إسم ولا خاتم، ترددتُ بُرهة في فتحها و لَمعَت في مخيّلتي ذكريات لبضع ثوان ثم انحنيتُ و فتحتها.
وجدتُ ورقة نقدية من فئة عشر جنيهات، و قِطعة ورقية كُتبت فيها بخط اليّد رسالة من سطرين تقول بالحرف:
" أنا أحد الغرباء، لقد حدث لي اليوم شيئ مُفرح و أردتُ مشاركة الفرحة معك، خد تلك الهدية و اشتري بها شيئا يفرحك أيضاً "
Eddie pacer 3 mar 2015

Comments

  1. ما عرفتش واش غاتقرا هاد التعليق ...المهم هاد النص واعر بزاف ..كايخليك تعرف بأن راك ماشي بوحدك لي كاتعيش الاغتراب بل كاينين ناس اخرين بعادين عليك ..و كايتشاركو معاك فهاد الشعور ...
    تحياتي .

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog